لماذا أكره السفر؟
قبل أن تظن أن لديّ مجرد نزعة في تحدي صورة اجتماعية سائدة، أو أنني أعبّر عن رفاهية مبالغاً فيها، اسمح لي بأن أشرح لك أسبابي.

قبل أن تظن أن لديّ مجرد نزعة في تحدي صورة اجتماعية سائدة، أو أنني أعبّر عن رفاهية مبالغاً فيها، اسمح لي بأن أشرح لك أسبابي.
فلنبدأ من البداية. من الخطوة الأولى لأي رحلة. حين تغرق لساعات باحثاً عن التذكرة الأوفر حيث تتغير الأسعار بين لحظة وأخرى في ابتزاز واضح من قبل لوبي الطيران العالمي لنا معشر المسافرين. بعد أن تنجز تلك المهمة الصعبة، قد يُطلب منك -بحسب الدولة المستضيفة لك- أن تحصل على "فيزا"، وهي عملية أنأى بنفسي عن شرح تفاصيلها، فقد يطلبون منك كل شيء، كل كل شيء. ابتداء من رصيد حسابك البنكي وحتى بصمات أصابعك، ولن يمانعوا في أن يحصلوا على تاريخ ميلاد والديك. ذات مرة وجدت سؤالاً في إحدى الاستمارات يقول بهذا اللفظ "هل لديك أم؟"، كان بودي أن أصيح في الشاشة "وما دخل أمك أنت؟". سيسألون إن كنت قد أتيت إلى بلادهم من قبل، ولم تريد الذهاب، وأين ستقيم، ومن سيصرف عليك، وعمّا إذا كنت مجرماً سابقاً وهل لديك خبرة سابقة في استخدام المتفجرات. يخيّل إليك أنّك طلبت يد كريمتهم لا سألتهم مجرّد الجواز على بلادهم.
ها قد حصلت على تذكرتك وفيزتك. هنيئاً لك! ابدأ الآن في حزم حقيبة السفر. والـ"حزم" هنا كلمة لها دلالتها، فيجب أن تكون حازماً فيما تأخذ وما تترك، لأن الوزن المسموح لك بنقله ليس على مزاجك ومزاج والدتك التي سُئلت عنها حين تقدمت بطلب الفيزا. على الأرجح أنّك ستنسى شيئاً مهماً جداً، مثل شاحن الهاتف النقّال، أو القابس الذي سيجعل شاحن هاتفك يشحن في البلد المُضيف. دائماً ما كنت أتساءل عن سبب اختلاف منافذ الكهرباء بين البلدان، وكأنّ البشر يُصعب عليهم أن يتفقوا حتى في تفصيلة صغيرة كهذه خالية من أي خلفيات ثقافية. حين تصل لوجهتك ستتذكر الأشياء المهمة وغير المهمة والتي نسيتها بطبيعة الحال، فإما أن تطلبها من أحد هناك -كاستقبال الفندق- أو أن تشتريها أو أن تتعايش مع حياتك بدونها. أذكر في رحلة من الرحلات أن طَرَفَاً من ظفري انشق عن بقية الظفر وقرر إعلان حالة تمرّد وعصيان. بدأ الأمر يزعجني ثم تفاقم الضيق الذي تسبب فيه هذا الظفر الناتئ، وبطبيعة الحال لم أُحضر معي في حقيبة السفر آلة قص الأظافر، فمن الذي سيحتاج إلى قص أظافره في رحلة قوامها بضعة أيام؟!
والآن حان يوم الرحلة المنتظرة. الحماس ينبغي أن يكون على أوجه، فإيّاك والتوتر. ستتوجه إلى المطار قبل الرحلة بساعات، وهناك احتمال وارد الحدوث جداً، بأن يكون موعدك موعد عجيب ممعن في كونه غير مريح، كالصباح الباكر أو المساء المتأخر. ستقف في طابور شركة الطيران التي وقع عليها اختيارك، وتنتظر برهة من الزمن، تتأمل فيها وجوه الواقفين في الطابور، المسافرين بدورهم مثلك. ستصل في النهاية لموظفة الشركة مكفهرة الوجه، والتي قد تُظهر لك عيباً ما، مثل تلك المرة التي أُبلغت فيها أن حجزي لا يشمل على حجز لحقيبة سفري، وكأنهم يفترضون أنني مسافر من الدنيا للآخرة، لا من بلد إلى آخر. اضطررت يومها إلى شراء حقيبة صغيرة من المطار ذاته، وضعت فيها كل ما وَسِعَهَا من أغراض وحملتها معي على متن الطائرة.
بعد ذلك، ستقف في طابور الجوازات، ثم ستقف في طابور ثالث للتفتيش، حيث سيخرجون كل ما فيك. "كل ما فيك" حرفياً. سينتشلون منك أي معدن، وقد يطلبون منك قلع حذاءك أعزك الله لسبب أجهله. بعد أن تجتاز عباب بحر التفتيش وتخرج ظافراً للضفة الأخرى، سترتدي حذاءك وحزامك وكل معادنك الرخيص منها والثمين، ثم ستتجه للبحث عن بوابة السفر الخاصة بك. إن كنت متأخراً، أو تم تأخيرك فيما سبق من مراحل الرحلة، فستضطر للركض في أروقة المطار لتكون فُرجةً للرائح والغادي وهم يحمدون الله على أن عافاهم مما بُليت به. بعد تلك الركضة القصيرة وحين تصل أخيراً إلى البوابة المنشودة وقلبك ينبض بسرعة جرّاء ركضك، قد تجد الرحلة قد تأخرتْ هي بدورها عن موعدها بكل بساطة. ستلبث بجوار البوابة منتظراً الإذن بالدخول، وحين يأذن لك حاجب الطائرة ويصيح "زون وَن" وتتحقق من بطاقة صعود الطائرة لتجد أنك تقبع في الـ"زون ون" إيّاها، ستقف في طابور طويل آخر، ليتحقق موظفوا الشركة من أنك أنت أنت، وأنك لا تنتحل هوية شخص آخر، وبعدها سيقذفون بك في "تحدي الحافلة". لعلّك -عزيزي القارئ- تساءلت بينك وبين نفسك عمّا يكون تحدّي الحافلة. تحدي الحافلة يا عزيزي يتكون من حافلة منزوعة الكراسي -لسبب أجهله- يُطلب منك أن تظل واقفاً فيها بينما يتفنن سائقها في قيادتها لإيصالك من مبنى المطار إلى الطائرة. تخسر التحدي إن سقطت على أحد الركاب الآخرين، وتفوز إن وصلت إلى الطائرة سليماً معافىً كما أرجو لك وآمل.
ها قد وصلت. أخيراً! لا بد أن الأخوين رايت سيكونان فخوران إن نظرا إلى الطائرة التي تقف قبالتها فجر هذا اليوم. لا بد أن الإنسان، أي إنسان، عاش في أي قرن قبل القرن العشرين سيكون مندهشاً من هذا الوحش الذي سيغادر بعد قليل الأرض ليلتحم بالسماء. بيد أنك عزيزي المرفّه فقدت القدرة على الاندهاش. لقد ركبت المصعد، والطائرة، والقطار، والسيارة، وتحدثت بالفيديو مع شخص يبعد عنك آلاف الكيلومترات، بل وصل بك المطاف أن تسأل تطبيقاً في حاسوبك عن قضية فيحللها لك ويأتيك بأنباءها، فأنّى لك أن تُبهر بكومة الحديد الطائرة هذه؟!
ستقف في طابور جديد، وأنا عن نفسي قد توقفت عن عد الطوابير التي وقفناها منذ بدأنا رحلتنا اليوم، وهذا الطابور يقف صعوداً على سلم الطائرة. عند باب الطائرة سينتظرك المضيف ليتحقق من أمرك مرة أخرى، ويمنع المحتالين من أن ينالوا شرف الطيران. بعد أن تجتاز المُضيف الباسم، سيجعلونك تمرُّ على أهل الدرجة الأولى. ستجدهم قد دخلوا قبلك، مجموعة من البشر، متربعين على أرائكهم، قهوتهم قد بللت ألسنتهم، وسالت بقدرها في أجوافهم، ينظرون إليك نظر المغشي عليه من السرور، أو أنهم يتحاشون النظر إليك أصلاً. كأنَّ شركة الطيران بفعلتهم تلك يتعمدون إذلالك، أو كأنهم يقولون لك: هذا المقعد قد يكون لك لو كان لك من كنوز الأرض ما تستطيع أن تشاركنا بعضه، أو أنَّ لديك كلية توافق على بيعها. لم لا تبيع كليتك يا رجل؟! ألا تشتهي هذا النعيم لبضع ساعات؟ ألا تتوق إلى هذه الأريكة الوثيرة بدلاً من تلك التي ستصل إليها بعد قليل؟ ستتجاوز أهل الدرجة الأولى وتصل لمقعدك الضيّق في درجة أسموها درجة "الضيافة" وهو لعمري اسم عبقري. أنت يا عزيزي المسافر "ضيف" في هذه الدرجة، والضيف لا يتذمر، ولا يشتكي، بل يقبل بما وُضع أمامه شاكراً. كيف أكون "ضيفاً" وقد خضتُ معركة البحث عن التذكرة الأوفر ودفعت فعلاً ما دفعت؟! دعك من هذه الأفكار التقدمية وابحث عن مقعدك رعاك الله. هناك احتمال أن تجد من يجلس فيه قبلك. ستنادي المضيف وتخبره بالتعدي الحاصل على مقعدك والذي قد يكون مجرد خطأ وقد يكون خطة من المعتدي لإعادة توزيع الكراسي. بعد أن تنتهي من هذه المعركة ستجلس في كرسيك الضيق وسيجلس بجوارك رجل لا يكفيه مقعده فيحتل رغماً عنه وعنك جزءاً من مقعدك. أو أن يكون بجوارك رجل قد جَهِل مغزى العطور، وحسب أن التزود منها ليس له حد، فسرعان ما ستجد صدرك يعلن اعتراضه وتبدأ في السعال مستاء من رائحة جارك النفّاذة. أمّا خلفك مباشرة فثلاثة أطفال أشقياء سيؤدون فقرات مختلفة تتنوع بين بكاء وعويل وضحك وخضخضة للمقاعد. ها نحن ذا على وشك الإقلاع. سيقف المضيف الباسم (و لا تصدّق ابتسامته أرجوك، فهي ابتسامة مدفوعة، وهو لا يكنّ لك من المودة شيئاً) ليخبرك أن الطائرة قد تقع، وأنها إذا وقعت فساعد نفسك أولاً واترك أطفالك لحتفهم في تناقض صارخ مع عاطفة الأبوة المغروسة في كل منا. تتمنى لو تسأل المضيف، لو كان أطفالك بجوارك، ما أنت فاعل يا هذا؟ ها؟! والآن حان دور "كابتن الطائرة". بعد أن يعرّفك باسمه -لسبب أجهله- ويخبرك بدرجة الحرارة وارتفاع الطائرة (وكأن هذه المعلومات تعنيك في أي شيء على الإطلاق) يجب أن يقوم بدوره ويوصل لك أحاسيس الطيران. كيف تريده أن يقنعك أنك فعلاً في سماء ملبدة بالغيوم؟! سيخضك خضاً عنيفاً كما تخض أنت المشروبات ذوات الغاز. هل تشعر بالدوار؟ لا عليك. شركة الطيران لم تنسك أبداً. كيف تفعل وأنت "ضيفها" لهذا اليوم؟! ها قد وضعت لك كيساً ورقياً للاستفراغ أعزك الله، وهو ما احتجت إليه فعلاً في رحلتي الأخيرة. أفرغ ما بجعبتك وأكمل رحلتك! أما إن احتجت إلى دورة المياه، فالأمر كله يعتمد على مؤشر كتلة الجسم الخاص بك. إن كان محيط الخصر لديك من النوع الذي يثير حفيظة مدربي الرياضة وأطباء التغذية ومدّعي العلم في اليوتيوب، فلعلك لن تفضل أن تقوم بزيارة لدورة مياه الطائرة وستفضل الاحتفاظ بما يريد جسدك أن يتخلص منه لوقت إضافي.
هل وصلنا؟ نعم. هل انتهينا؟ لا. ليس بعد. ما لك مستعجل يا صديقي؟ من المحتمل أن رحلتك هذه "ترانزيت"، والترانزيت يعني أن تذهب لدولة غير الدولة المستضيفة لك في طريقك نحو الدولة المستضيفة. لمَ تفعل ذلك؟! إما لأنّه لا يوجد طريق مباشر بين مكان انطلاقك ووجهتك، أو لكي توفر بعض الدراهم التي تعبت في جمعها. لم تكون رحلتان أرخص من رحلة؟! لا أدري، لكن يبدو أن لوبي الطيران العالمي يحمل ضغينة ما تجاهنا نحن المسافرين. في مطار الترانزيت ستجد أشياء كثيرة جميلة، لكنها غالية الثمن. إن كان بصحبتك أطفال فاتخذ سياسة الـ"لا" القاسية، وهي التي تقولها بطريقة يكون واضحاً فيها لأطفالك أن هذه الـ"لا" لا تفاوض بعدها. إن لم تكن قد طورت "لأً" كهذه فأنصحك أن تبادر بذلك فلا ينبغي أن تكون كل لآتك بذات القدر من القوة أو الضعف. في مطار الترانزيت قد تبحث عن النوم فلا تجده، وقد تدخل دورة المياه والمصلى ثم تتجه إلى بوابة الرحلة الجديدة ليتكرر معك ما شرحته لك آنفاً، وتركب في الطائرة الثانية لتصل أخيراً لوجهتك.
سيكون أول ما يستقبلك حين تصل وجهتك النهائية هو "تحدّي الحافلة" لكن بنسخة أجنبية هذه المرة. بعدها، ستقف في طابور جديد للجوازات، حيث يتحدثون لغة غير لغتك، وبعد أن تخرج منه إلى الضفة الأخرى ستذهب لتقف بجوار سير بيضاوي الشكل انتظاراً لوصول حقيبة سفرك. في الحقيقة لم أشأ أن أنغّص عليك وأخبرك أن حقيبتك قد لا تصل اليوم، وقد لا تصل أبداً، وسيكون عليك أن تخوض عراكاً ما بحثاً عنها إن أضاعها القوم بين كل هذه الحقائب الأخرى ووسط كل هذه الرحلات الكثيرة.
حين تخرج أخيراً من المطار ستبحث عن وسيلة مواصلات لتقلّك إلى مكان إقامتك. كن حذراً لأنك قد تتعرض للنصب هنا. لن أخبرك كيف ولماذا، يمكنك أن تسأل صديقك الإلكتروني الجديد "جِي-بِي-تِي" وقد يجيبك. حين تصل بعد كل هذه الرحلة بكل مراحلها إلى مكان إقامتك، سيرفع جسدك طلباً جاداً جداً للراحة. لن تستطيع أن تستخدم معه كرت الـ"لا" الذي استخدمته مع أطفالك. سترتمي على فراشك، مع احتمالية الإصابة بالـ"جت-لاق" وهي حالة ناجمة عن فرق التوقيت بين مقر انطلاقتك ووجهتك، ولعلك تواجه بعض الصداع والدوار.
ثم ماذا؟ ثم ماذا بعد كل هذا؟ الحديقة تشبه الحديقة التي بجوار منزلك. والبحر هو البحر. والسماء هي السماء. لا يوجد أوكسجين ألذّ لأنفك في مكان ما تحت سماء هذا الكوكب. الكورولا هي الكورولا. لن تجدها تطير في بلد آخر، أو تسافر عبر الزمن في بلد ثالث. بل وحتى الكلاب هي ذات الكلاب. أما البشر فهم ذات البشر بكل نقائصهم وما تعرفه عنهم بخبرتك الممتدة في هذه الدنيا. لا جديد تحت السماء وفوق الأرض. ما لم تكن الرحلة إلى المريخ أو المشتري فلا تتوقع أن ترى ما يخلب لبّك في عصر الصورة، حيث أن بينك وبين أي موقع في العالم "هاشتاق". أفتترك هدوء بيتك، وجمال روتين حياتك، وصفاء حيّك، ومحل الشاورما الذي بينك وبينه أمتار قليلة، وتخوض معركة كهذه؟ علام تفعل ذلك؟ من أجل المنافسة في سباق الانستگرام؟! صدقني أن الأمر لا يستحق، وأنك مهزوم في ذاك السباق على الأرجح.
أما بعد، فإن كان السفر لقضاء حاجة، أو تحقيق مطلب، أو زيارة رحم، فبه ونعمت، وأما إن كان للاسترخاء، فلا استرخاء عندي (في هذه المرحلة من عمري على الأقل) أرجى وأكمل من أن أتمدد على سريري، تحت ظل مكيف مضبوطة درجة حرارته على ثلاثٍ وعشرين، في مدينتي التي لا تفرّق كثيراً بين الصيف والشتاء، حيث لا أحتاج إلى حقيبة سفر فكل أغراضي بجواري: ملابسي وفرشاة أسناني وقصّاصة أظافري، كتبي وأوراقي، وحاسوبي المتصل بالإنترنت، وثلاجة بيتي التي فيها مياه غازية باردة لذيذة. ذلك عندي هو تمام الاسترخاء، وما سواه -يا سادة- هباء.

