ثلاث مئة وخمسة وستون متراً

مساحةٌ من الأرض، معلّقة في طابق ثالث، تحوي سطحاً واسعاً مطلاً على شارع وديع. هي الأقرب لقلبي حيث خالطت شغافه كما لم يفعل مكان قط.

مساحةٌ من الأرض، معلّقة في طابق ثالث، تحوي سطحاً واسعاً مطلاً على شارع وديع. هي الأقرب لقلبي حيث خالطت شغافه كما لم يفعل مكان قط. لا أحسب أنني أحببت بقعة على ظهر البسيطة كما أحببت تلك المساحة المورقة، ولا أعرف إن كنت سأفعل. تسلّمها جناني، أرضاً بواراً، لا ماء فيها ولا كلأ، فأكرمني ربي بأن سكبت فيها من روحي، وحِكتُ أركانها ركناً ركناً، وشيّدت جدرانها جداراً جداراً، حتى إذا ما استتبت الأمور ووضعت رحلي، أدركت أن عليَّ أن أتركها لغيري. أسلّم اليوم مفتاح المكان الذي أحببت، كما يُسلم الأب ابنه إلى أب سواه، آسفاً على الفراق، متساءلاً عن مدى ما سيكابده من الاشتياق.

إنني وإذ أفعل ما أفعل، لأدرك أن الدنيا قصيرة، وأنَّ رحلتنا فيها كرحلة مسافر استظلَّ بظل شجرة، فعلامَ التعلّق بالشجرة وما هي إلا محطة في الطريق؟! وعلام البكاء على ظلّها وما هي إلا سويعات ونغادرها إلى غير رجعة؟! أفنظنَّ الوسيلة غاية؟ أوَ ننشغل بالمحطة عن الوجهة؟! فلتتخفف يا أبا العز، وإيّاك والتعلّق بالأشياء، فأشياء دنيانا زائلة، فإن أحببت شيئاً منها، فأحببه هوناً ما.

وإنني إذ أفعل ما أفعل، لراضٍ تمام الرضى، وسعيدٌ تمام السعادة. ما غصّة القلب على الفراق إلا غصّة إنسان يألف ويؤلف، يألف المكان كما يألف أخاه الإنسان، ويغصّ على فراقه كما يفعل كل ذي فؤاد سليم، بيد أنّي موقن أن الخير، كل الخير، فيما يقدّره مدبر الأمور، إليه نفوض أمورنا كلها، فعليك يا مولانا اتكالنا، وليّنا في الدنيا والآخرة، وظني بك أن القادم خير من الفائت، وأن فراقي لمكان أحببته، إيذان بلقاءي بمكان أفضل.

الوداع يا محكانا الرابع، حيث قفزنا فرحاً وبكينا حزناً، وسهرنا ننسج حكايات لجيل يستحقها حتى أتاكَ يقينك. وأهلاً، أهلاً وسهلاً ومرحباً بالمحكى الخامس. بيتنا الجديد، سقفنا الذي يظلنا، ونرفع تحته سقف أحلامنا. يسكننا حماس منقطع النظير لأن نحيك في فصلنا الخامس من حكايتنا حكايات جمّة، تدهش النفوس، تستثير المآقي، تترك أثراً وتلهم جيلاً عاصرناه، وأجيالاً تأتي من بعده، فبسم الله!

مدونة عبدالعزيز عثمان
مدونة عبدالعزيز عثمان
أعتقد أن مرة في الشهر كافية. ما رأيك؟